الفصل السابع
("النظر من زاوية جديدة لما يواجهنا من تحديات يفتح بوابات الأمل لتجاوزها")
بيروت، صيف 2015
لم يمض على تعارفنا أكثر من عدة شهور، بدت خطواتنا الأولى حذرة خجلة، ثم لم تلبث أن استسلمت لقوانين الدفع الذاتي، اتفقدها في مكتبها، أو يدعو أحدنا الآخر لفنجان قهوة، وعندما يأتي الصباح نتبادل -عبر برامج التواصل الاجتماعي- رسائل طازجة تتدلي من سيقانها خلاخيل السعادة. وفي المساء، حيث الفراغ والجدران الباردة، اتناول الهاتف بحثًا عنها، ولا أفيق إلا وقد مضت ساعة أو نحوها ونحن نتواصل إما صوتًا أو كتابة. ثم لم نلبث أن تواعدنا على العشاء في بعض أماسي الاجازات، خيط رفيع إلى جوار خيط حتى صار حبلاً مجدولاً متينًا.
كنت أشبه ببحار تائه يكتشف قارة جديدة فيجدها مدينة عجائبية مسكونة بالسحر والدهشة، تميمتها قلب يخترقه سهم كيوبيد المجنح، وتأشيرة دخولها وسم الحب، تزين طرقاتها رسوم تحكى قصص العشق عبر الزمان، في كل زاوية قصة، وفى كل قصة عبرة، وفى كل عبرة حكمة، وفى كل حكمة حياة، وفى كل حياة قصة حب، سلسلة متعاقبة لا يتوقف دورانها، مدينة متخمة بالتفاصيل والحكايات؛ لكل شارع فيها نكهته المميزة وبصمته الخاصة به، ولكل ميدان خصوصياته وفسيفسائه الفريدة، ثقافات متعددة أكسبتها طابعًا فريدًا، لا شرقية ولا غربية؛ كوكب فريد لم أدر كُنهه آنذاك، صنع لنفسه مداره الخاص.
ما إن اقتربت من مجال جاذبيتها حتى عَلِقْتُ في مداراتها لسنوات ضوئية لا أعرف عددها، أتحسس دروبى مغمض العينين مهتديًا بالقمر والنجوم، وكعادتى في كل المدن التى أنزلها للمرة الأولى؛ تهت فيها، فباحت لى بأسرارها، تمامًا كما باحت لى مدن التيه بحكاياتها السرية، فعرفت عن قرب أحياءها الراقية والشعبية، أغنياءها وفقراءها، مراكزها التجارية العالمية ودكاكينها البسيطة، جاداتها العريضة الطويلة النظيفة وطرقاتها الضيقة المتعرجة القصيرة، أنوارها المبهرة وشوارعها المظلمة، أبراجها وأكواخها، مزاراتها الشهيرة وتلك المنسية في الزحام. لا تستقيم المدن إلا بتناقضاتها.
للتيه في المدن الغريبة طعم التجربة الأولى وشيء من ملح المغامرة، صعب أن تنساه، يُلقي مهملاً في زوايا الذاكرة فلا تذكر منه شيئا، ثم في لحظة، لا تدرى متي تحين، تسحب طرفا من خيط الذكريات، فإذا هو ممتد طويل، تنفض ما عليه من غبار وتخلصه من غزل عنكبوت الزمن فيعود طازجًا بهيًا، وكأنه ما غاب كل ذلك الزمان.
كانت مايا النداهة في أساطيرنا المصرية القديمة. يسمع الواحد صوتًا يناديه من بعيد، يتلفت ذات اليمين وذات الشمال، ثم يتجه إليه الصوت من أقرب اتجاه يظنه صحيحاً مهتديًا بصوت النداهة، والنداهة لا تنفك تناديه من كل اتجاه، فيلتبس عليه حتى يجد نفسه وقد ضل وفات أوان الإياب، قضيت حياتي تائهًا مشتتًا بين المدن وخيباتي.
فكلما خسرت حُبًا تركت المدينة لأخرى حاملا رايات هزائمى ووجوه النساء اللواتى فقدتهن، أسافر آلاف الكيلومترات هربًا من ريم وجيهان وغادة، حتى أمى هربت من دموعها وغيوم أحزانها الممطرة صيفًا وشتاء، خضت ألف حبٍ وحب وخرجت منها جميعًا بلقب الخاسر الأول، ربما قُسِمَتْ خيبات الحب بينى وبين أهل الأرض؛ لى وحدى نصفها، ولهم جميعًا النصف الآخر.
كان قد مضي زمنٌ طويل من جفافي العاطفي، تَعبت فيه أمي وتعبت معها؛ كانت جرس الإنذار على رصيف الزمن، لم تمل من طرقه لتنبهني، وكنت أنا مُثخنًا بالجراح، فآثرت السلامة زمنًا ليس بالقليل، حتى ضعفت أمام دموعها وضعفها، فصرت أترقب ظهور نجم حبيبة جديدة كي تفرح وتسعد، أكثر من حاجتي إلى من تُنسيني أنات وتباريح ليالي الوحدة.
ما أن وقعت عيناي على مايا حتى أيقنت أن لنا شأنًا معًا، استحضرها في ليالي الوحدة فيعذبنى غيابها، لا أفتأ أغرسها خنجرًا يمنيًا معقوفًا في الخاصرة، صرت بعد لقاءنا الأول أتشمم الريح فربما حملت بشارات قدومها، وأتطلع للنجوم فربما أخبرت عن انبائها، واتصفح وجه السماء أملاً في تلألؤ حروفها في أبعاد فضاءاتها، وأُنقب في المخطوطات عساها تُفصح عنها بين طيات لفائفها، أو تعلن الآثار في فرح عن خبيئتها. لكنها كانت في سكون الحياة تتدثر بعباءة الصمت والتخفى، تمضغ الزمن متكئة على بساط الانتظار، تنتظر اكتمال استدارة القمر في ليلة لا تتكرر إلا كل ألف عام، حينها تسطع فتُدهش أولئك القادمين من بداوات خشنة، والتائهين في بلورات نوافيرها، والمتلهفين إلى قطرة من ماء مُزنها.
في كل مرة كنت أدقق النظر في ملامحها أراها دقيقًا عُجن بماء الندى المقطر والمعطر بقطرات المطر، أمعن الخراط إزميله ومبراته في كل زاوية وناصية وواجهة؛ شيئًا من طول النخيل، وبعضًا من ليونة البامبو، وكثيرًا من انحناءات وأقواس فيثاغورث الواقع مركزها في سرة فضاء الإغواء، وشَعرًا ينافس ليل الشتاء طولا وظُلمة وموج البحر تتابُعًا، ونجيلاً من قطيفة، تسحرك في دغل غاباتها ورياحين أزهارها.
دخلت مدارها بحثًا عن انتصار، أن أنسي نظرة عطف الرجل الجالس خلف زجاج بوابات الغربة إلى جواز سفرى بعينين باردتين، زَمَة شفتيه وهو يدق ختم المرور أسفًا، ثم يناولنى إياه في كسل ولسان حاله يقول،
- أرجو أن تستقر في مدينتنا ؟
- أتمني!
تخيلته سألنى متشجعا،
- ومتى تقرر ؟
فأجيبه مستسلما،
- عندما أقرأ قصتى المجهولة في مدينتكم تتحدد محطتى القادمة
- اتمنى لك حظا سعيدا !!
فقلت وعلى وجهى نصف ابتسامة
- ما أجمل أن تتمنى رغم يأسك !!
- لا نملك شيئا آخر !!
- .....
كم مرة تكرر هذا المشهد المسرحى في خيالى، لا أدرى، ربما بعدد هزائمى وبعدد وجوه النساء اللواتى عرفتهن، والمعلقة صورهن على صدرى المثقوب بسهام العشق كغربال، ألم تعرف واحدة منهن نزار قبانى ؟، ألم تسمعه يردد،
- كم قلتُ إني غير عائدةٍ له، ورجعت
آه لو فعلتها إحداهن وتَقَمَصت أداء نجاة الصغيرة وهى تغنيها فتقول،
- كم قلت إني غير عائدةٍ له .. له ..
ثم باستسلام مفرط مسبلة العينين،
- ورجعتُ .... ورجعتُ ... ورجعتُ
ثم رافعة صوتها إقرارًا بالواقع متذكرة كل ما تلى الإياب من مُتع،
- ما أحلى الرجوع إليه
لم تفعل أى ممن عرفتهن ذلك ولا فعلته أنا، فارقتهن وفارقننى بلا أمل في لقاء أو رجعة حتى وإن بقين في تلافيف الذاكرة يرفضن الرحيل والإياب، كيف يمكن لشخص أن يقف في منطقة المابين دون ملل أو شكوى.
أفقت من أفكاري على صخب الزملاء تعقيبًا على نشر دعوة لحضور محاضرة للدكتور جون ستيوارت عن (قوة التغيير) في فندق الموفينبيك. سرت أصوات استحسان وإشادة بالرجل، وانتقلت عدوى الرغبة في الحضور من شخص لآخر؛ فسجلت اسمى مع من سجل وكذلك فعلت مايا، كم نحتاج من وقت لآخر إلى ما يجعلنا نعيد النظر فيما حولنا، النظر من زاوية جديدة لما يواجهنا من تحديات يفتح بوابات الأمل لتجاوزها.
وحين حل الموعد، اقترحت أن أمر عليها بالسيارة لنذهب معًا. كانت علاقتنا في بداياتها، لم يفارق مركب الحب شاطئه بعد، وإن تلهف راكباه على خوض غمار الموج، نتبادل الرسائل عبر برامج التواصل الاجتماعي، والمكالمات التليفونية داخل إطار من حياء لا يخلو من قفشات تُذيب ببطء بعضًا من ثلج البدايات الكثيف، ويغلف كلامنا بعضًا من كلمات شبه رسمية.
فى الموعد، انتظرتها بالسيارة على زاوية الشارع الجانبى، بينما تغمرني أضواء محل آلدورادو للملابس من جهة اليسار. كعادتها هلت، متألقة؛ ترتدى فستانًا أرجوانيًا قصيرًا زادها ألقًا على ألق وكشف انسيابية ساقيها. فَتحت باب السيارة وألقت تحية المساء، فزكمتني رائحة عطرها، لم أملك منع نفسى من النظر إليها لبرهة، الأمر الذى جعلها تعقب متسائلة،
- شو بدك، تفتكر ما فينا نِفل ؟
ابتسمت وقلت،
- أبدًا..
ثم أدرت محرك السيارة وانطلقنا نحو الموفينبيك المغروس بأدواره التسع على بحر بيروت.
صنع عطرها جوًا غير عادى؛ أجبرنى على الاعتراف لها بروعته وأننى رغم قِصَر مدة تعارفنا أكاد أجزم أنها لم تستخدمه من قبل، ابتَسَمت وعَقَبَت بأن عطر المساء يختلف عن عطر الصباح. فتمتمت بينى وبين نفسى؛ (يا لعطور المساء، ويا لعطور النساء، تمتلئ بالغواية والسحر، تُستقطر من زهور لا تعرف سرها سوى النساء). لا يكاد يهدأ عبق عطرها قليلاً، حتى يتأجج مع حركاتها والتفاتاتها العفوية أثناء حديثنا، همست في سري، (حنانيك يا مايا !!)
- عم بتكلم نفسك ؟ ؟
سألتنى مقطبة حاجبيها المقوسين الكثيفين، فاعترفت صاغرًا مبتسمًا؛
- نعم ... سحرنى عطرك
حركت شفتيها إلى زاوية وجهها استنكارًا وقالت،
- شو .. عم بتخربط !!
فرحت أحدث نفسي حتى وصلنا إلى مقر قاعة المحاضرات بأحد مباني الجامعة الأمريكية، (لا يا سيدتى، تاهت بوصلتى ومُزقت خارطتى وعقمت لغتى، عوالم خيالية، كتلك التى نسجتها أساطير ألف ليلة وليلة وصُلبَ فيها شهريار على صليب الحكى مفتونًا بحكايات شهرزاد).
جلسنا في القاعة على مقعدين متجاورين في جو يملأه التفاؤل والبهجة ومن حولنا أصدقاؤنا وزملاؤنا، ما إن ظهر الدكتور جون على المسرح حتى ضجت القاعة بالتصفيق، ومضى الوقت في حوار وسجال وتفاعل بينه وبين الحضور إلى أن طلب من الحاضرين الوقوف، فساد شيء من هرج، ثم طلب أن يقف كل اثنين متجاورين في مواجهة بعضهما البعض؛ وقفت قبالة مايا وجهًا لوجه، سألتها مبتسمًا، عما تظنه سببًا لهذا الطلب، فأجابت بعفوية مَشوبة بشئ من سخرية،
- أكيد من شان نتغير
فعقبت ضاحكًا؛
- صحيح، نسيت عنوان المحاضرة
وقفنا متقابلين، والدكتور ستيوارت مندمج في أداء مسرحي عن قوة العواطف في تغيير نظرتنا للحياة وإكسابنا شحنات إيجابية تعطينا القوة في مواجهة التحديات، علق البعض بنكات صنعت فقاعات ضحك تنقلت بخفة ورشاقة في أرجاء القاعة، ثم تعمد ستيوارت اصطناع فترة صمت شحذ فيها كل خبرته وطاقته ثم قال، وقد أحاط صدره بذراعية كأنما يحتضن نفسه،
- فليضم كل منكم الشخص الذى يقابله إلى صدره !!
ثم أردف،
- احضنوا بعضكم بقوة !!
سرت ضحكات وغمزات من كل أرجاء القاعة، عقب البعض أنهم قد غُرر بهم، فقد حضنوا زملائهم بينما حضن آخرون زوجاتهم وآخرون صديقاتهم، وحضن الواقفون على الأجناب أنفسهم ضاحكين هازلين، إذ لم يكن أحد قبالتهم.
كانت تلك أول مرة أضم فيها مايا إلى صدرى، ترددت في البداية، ثم أمام تحريض عينيها اندفعت؛ غرقت في شلالتها، شملنى عبقها، وعطرها، أخذنى إلى عوالم لم أعرفها من قبل، ولم أطرقها من قبل، أحسستها بين ذراعي كائن اسفنجى لدن، أغمضت عينيى وتهت عن الحضور، انضغط صدرها في صدرى، وانسحقت خلاياها في خلاياي، وتمنيت أن نمتزج، نغدو كيانًا واحدًا يشغل جسدًا واحدا. رحلة استغرقت على مقياس الأرض ثوان، وعلى مقياس زمنى سنوات ضوئية لا يعرفها أهل الأرض، بل لعلها كانت في اللا زمن، حيث لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، اللحظة فيها حياة كاملة، من الموت إلى البعث.
هناك أشياء كثيرة لا ندرى تأثيرها ومدى فعلها في كياننا إلا بتجربتها ومواقعتها، عدا ذلك يبدو الحديث عنها مجرد طرح نظرى بعيد عن الواقع؛ تفاعل جسدى مع فضاء مايا وعبقها ومحيطات تأثيراتها اللامتناهية؛ موج من بعد موج، وفيض من بعد فيض، أقف وحيدًا عاجزًا في قارب صغير بلا شراع، يهدهدنى الموج حينًا ويطيح بى حينًا آخر، قِبلتى موجى وحيث يقرر البحر، أغوص في كثبان رمل ناعم شاهق البياض فلا أدرى صعودًا من هبوط ولا هبوطًا من صعود، أسبح في فضاء لا متناهى يجمع البحر والشط والفضاء، حالة أقرب إلى سباحة في فراغ انعدمت فيه الجاذبية.
كم مضى علينا على هذه الحال، لا أدرى ؟، وهل تقاس التجربة بمواقيتنا نحن، إنها ليست تلك الثوانى الخاطفة التى عاشها الحضور من حولنا، إنها فترة تعطل فيها الزمن فصار أبدى بلا بداية ولا نهاية.
ثوان معدودات بدت في عمر الحب دهرًا مطرزًا بفسيفساء التفاصيل، استرجعها، بعد ليلتنا تلك، من حين لآخر، أتوضأ بها في وحدتى وغربة جسدى، وشوقه إلى ضمه تسحقه، تُشعره أن رجولته ما زالت محل رغبة، حتى وإن كانت الضمة الأولى تنفيذًا لأمر أصدره الدكتور ستيوارت وأتبعه بغمزه عين وهو يصيح قائلاً،
- المتزوجون فقط ... أكرر المتزوجون فقط، ..
ولكن هيهات هيهات، أفلت الطائر من محبسه، والرصاصة من بندقيتها، والسهم من قوسه وما عاد لأى منها أن يؤوب إلى محله القديم، ألا ما أجمل هذه التعليمات.
بعد أن عدت ذلك المساء إلى شقتى، أخذت أتحسس جسدى، أمر بيدى على جغرافيا لم تلمسها سوى امرأة واحدة من قبل وسرعان ما تركت بصماتها ورحلت بعيدًا، خشنة أرضى؛ مجهولة الدروب لغيرى، قاسية التضاريس، نبت الصبار على حدودها، وملأ رمل الوحدة أخاديدها، أرض سرعان ما هجرت أغصانها طيور الحب، وفارقتها عصافير الصباح، فسكنت الوحشة محل البهجة. بدا جسدى غريبًا عنى، كيف انجذب إلى جسدها وأنا الذى ظننته زهد النساء، وعشق النساء، ورائحة النساء، فإذا به يطلب المزيد.
هل الأفضل لمن جفت شفاهه عطشًا وحرمانًا أن يبلل شفتيه بالماء، أم يكمل رحلته مشقق الشفتين، مُمَنيَا النفس بشربة تفاجئه في صحراء لا يجدى كنسُ رملها صباح مساء سوى مزيدًا من الرمل؛ رمل فوقه رمل، ومع هذا يعيش على أمل تفجر نبع ماء ضال يتيم من بين أصابع قدميه ؟.
كلاهما معذب، من ذاق شربة الماء ثم حُرم، ومن أكمل مسيره أملاً في نبع ماء بارد يحثو منه حسوات ترد له شيئا من عافية. فالأول لا يفتأ يتذكر طعم الماء وأثره الطيب في جسده، والثانى لا يقوى على مفارقة النبع حال تفجر بين أصابع قدميه. الوقوف عند النبع ضياع للهدف، والسير إلى الهدف مخاطرة، فالطريق وعر، والماء عزيز، ألا ما أضيع المسافر في صحراء وحدته.
إلى لقاء في فصل جديد